سورة الزخرف - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الزخرف)


        


{وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62)}
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى ذكر أنواعاً كثيرة من كفرياتهم في هذه السورة وأجاب عنها بالوجوه الكثيرة فأولها: قوله تعالى: {وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءا} [الزخرف: 15].
وثانيها: قوله تعالى: {وَجَعَلُواْ الملئكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إناثا} [الزخرف: 19].
وثالثها: قوله: {وَقَالُواْ لَوْ شَاء الرحمن مَا عبدناهم} [الزخرف: 20].
ورابعها: قوله: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31].
وخامسها: هذه الآية التي نحن الآن في تفسيرها، ولفظ الآية لا يدل إلا على أنه لما ضرب ابن مريم مثلاً أخذ القوم يضجون ويرفعون أصواتهم، فأما أن ذلك المثل كيف كان، وفي أي شيء كان فاللفظ لا يدل عليه والمفسرون ذكروا فيه وجوهاً كلها محتملة فالأول: أن الكفار لما سمعوا أن النصارى يعبدون عيسى قالوا إذا عبدوا عيسى فآلهتنا خير من عيسى، وإنما قالوا ذلك لأنهم كانوا يعبدون الملائكة الثاني: روي أنه لما نزل قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] قال عبد الله بن الزبعري هذا خاصة لنا ولآلهتنا أم لجميع الأمم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «بل لجميع الأمم» فقال خصمتك ورب الكعبة، ألست تزعم أن عيسى ابن مريم نبي وتثني عليه خيراً وعلى أمه، وقد علمت أن النصارى يعبدونهما واليهود يعبدون عزيراً والملائكة يعبدون، فإذا كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم فسكت النبي صلى الله عليه وسلم وفرح القوم وضحكوا وضجوا، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101] ونزلت هذه الآية أيضاً والمعنى، ولما ضرب عبدالله بن الزبعري عيسى ابن مريم مثلاً وجادل رسول الله بعبادة النصارى إياه إذا قومك قريش منه أي من هذا المثل يصدون أي يرتفع لهم ضجيج وجلبة فرحاً وجدلاً وضحكاً بسبب ما رأوا من إسكات رسول الله فإنه قد جرت العادة بأن أحد الخصمين إذا انقطع أظهر الخصم الثاني الفرح والضجيج، وقالوا أآلهتنا خير أم هو يعنون أن آلهتنا عندك ليس خيراً من عيسى فإذا كان عيسى من حصب جهنم كان أمر آلهتنا أهون الوجه الثالث: في التأويل وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حكى أن النصارى عبدوا المسيح وجعلوه إلهاً لأنفسهم، قال كفار مكة إن محمداً يريد أن يجعل لنا إلهاً كما جعل النصارى المسيح إلهاً لأنفسهم، ثم عند هذا قالوا: {أآلهتنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} يعني أآلهتنا خير أم محمد، وذكروا ذلك لأجل أنهم قالوا: إن محمداً يدعونا إلى عبادة نفسه، وآباؤنا زعموا أنه يجب عبادة هذه الأصنام، وإذا كان لابد من أحد هذين الأمرين فعبادة هذه الأصنام أولى، لأن آباءنا وأسلافنا كانوا متطابقين عليه، وأما محمد فإنه متهم في أمرنا بعبادته فكان الاشتغال بعبادة الأصنام أولى، ثم إنه تعالى بيّن أنا لم نقل إن الاشتغال بعبادة المسيح طريق حسن بل هو كلام باطل، فإن عيسى ليس إلا عبداً أنعمنا عليه، فإذا كان الأمر كذلك فقد زالت شبهتهم في قولهم: إن محمداً يريد أن يأمرنا بعبادة نفسه، فهذه الوجوه الثلاثة مما يحتمل كل واحد منها لفظ الآية.
المسألة الثانية: قرأ نافع وابن عامر والكسائي وأبو بكر عن عاصم يصدون بضم الصاد وهو قراءة علي بن أبي طالب عليه السلام والباقون بكسر الصاد وهي قراءة ابن عباس، واختلفوا فقال الكسائي هما بمعنى نحو يعرشون ويعرشون ويعكفون، ومنهم من فرق، أما القراءة بالضم فمن الصدود، أي من أجل هذا المثل يصدون عن الحق ويعرضون عنه، وأما بالكسر فمعناه يضجون.
المسألة الثالثة: قرأ عاصم وحمزة والكسائي أآلهتنا استفهاماً بهمزتين الثانية مطولة والباقون استفهاماً بهمزة ومدة.
ثم قال تعالى: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ} أي ما ضربوا لك هذا المثل إلا لأجل الجدل والغلبة في القول لا لطلب الفرق بين الحق والباطل {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} مبالغون في الخصومة، وذلك لأن قوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} لا يتناول الملائكة وعيسى، وبيانه من وجوه:
الأول: أن كلمة ما لا تتناول العقلاء ألبتة والثاني: أن كلمة ما ليست صريحة في الاستغراق بدليل أنه يصح إدخال لفظتي الكل والبعض عليه، فيقال إنكم وكل ما تعبدون من دون الله، أو إنكم وبعض ما تبعدون من دون الله الثالث: أن قوله إنكم وكل ما تعبدون من دون الله أو وبعض ما تعبدون خطاب مشافهة فلعله ما كان فيهم أحد يعبد المسيح والملائكة الرابع: أن قوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} هب أنه عام إلا أن النصوص الدالة على تعظيم الملائكة وعيسى أخص منه، والخاص مقدم على العام.
المسألة الرابعة: القائلون بذم الجدل تمسكوا بهذه الآية إلا أنا قد ذكرنا في تفسير قوله تعالى: {مَا يجادل فِي ءايات الله إِلاَّ الذين كَفَرُواْ} [غافر: 4] أن الآيات الكثيرة دالة على أن الجدل موجب للمدح والثناء، وطريق التوفيق أن تصرف تلك الآيات إلى الجدل الذي يفيد تقرير الحق، وأن تصرف هذه الآية إلى الجدل الذي يوجب تقرير الباطل.
ثم قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} يعني ما عيسى إلا عبد كسائر العبيد أنعمنا عليه حيث جعلناه آية بأن خلقناه من غير أب كما خلقنا آدم وشرفناه بالنبوة وصيرناه عبرة عجيبة كالمثل السائر {وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُمْ} لولدنا منك يا رجال {ملائكة فِي الأرض يخلفون} كما يخلفكم أولادكم كما ولدنا عيسى من أنثى من غير فحل لتعرفوا تميزنا بالقدرة الباهرة ولتعرفوا أن دخول التوليد والتولد في الملائكة أمر ممكن وذات الله متعالية عن ذلك {وإِنَّهُ} أي عيسى {لَعِلْمٌ لّلسَّاعَةِ} شرط من أشراطها تعلم به فسمي الشرط الدال على الشيء علماً لحصول العلم به، وقرأ ابن عباس: {لَعِلْمٌ} وهو العلامة وقرئ للعلم وقرأ أبي: لذكر، وفي الحديث:
أن عيسى ينزل على ثنية في الأرض المقدسة يقال لها أفيق وبيده حربة وبها يقتل الدجال فيأتي ببيت المقدس في صلاة الصبح والإمام يؤم بهم فيتأخر الإمام فيقدمه عيسى ويصلي خلفه على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ثم يقتل الخنازير ويكسر الصليب ويخرب البيع والكنائس ويقتل النصارى إلا من آمن به {فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا} من المرية وهو الشك {واتبعون} واتبعوا هداي وشرعي {هذا صراط مُّسْتَقِيمٌ} أي هذا الذي أدعوكم إليه صراط مستقيم {وَلاَ يَصُدَّنَّكُمُ الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} قد بانت عداواته لكم لأجل أنه هو الذي أخرج أباكم من الجنّة ونزع عنه لباس النور.


{وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66)}
اعلم أنه تعالى ذكر أنه لما جاء عيسى بالمعجزات وبالشرائع البينات الواضحات {قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بالحكمة} وهي معرفة ذات الله وصفاته وأفعاله {وَلابَيّنَ لَكُم بَعْضَ الذي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} يعني أن قوم موسى كانوا قد اختلفوا في أشياء من أحكام التكاليف واتفقوا على أشياء فجاء عيسى ليبين لهم الحق في تلك المسائل الخلافية، وبالجملة فالحكمة معناها أصول الدين و{بعض الذي تختلفون فيه} معناه فروع الدين، فإن قيل لم لم يبين لهم كل الذي يختلفون فيه؟ قلنا لأن الناس قد يختلفون في أشياء لا حاجة بهم إلى معرفتها، فلا يجب على الرسول بيانها، ولما بين الأصول والفروع قال: {فاتقوا الله} في الكفر به والإعراض عن دينه {وَأَطِيعُونِ} فيما أبلغه إليكم من التكاليف {إِنَّ الله هُوَ رَبّى وَرَبُّكُمْ فاعبدوه هذا صراط مُّسْتَقِيمٌ} والمعنى ظاهر {فاختلف الأحزاب} أي الفرق المتحزبة بعد عيسى وهم الملكانية واليعقوبية والنسطورية، وقيل اليهود والنصارى {فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} وهو وعيد بيوم الأحزاب، فإن قيل قوله: {مِن بَيْنِهِمْ} الضمير فيه إلى من يرجع؟ قلنا إلى الذين خاطبهم عيسى في قوله: {قَدْ جِئْتُكُم بالحكمة} وهم قومه.
ثم قال: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ الساعة أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} فقوله أن تأتيهم بدل من الساعة والمعنى هل ينظرون إلا إتيان الساعة. فإن قالوا قوله: {بَغْتَةً} يفيد عين ما يفيده قوله: {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} فما الفائدة فيه؟ قلنا يجوز أن تأتيهم بغتة وهم يعرفونه بسبب أنهم يشاهدونه.


{الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آَمَنُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73)}
اعلم أنه تعالى لما قال: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ الساعة أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} [الزخرف: 66] ذكر عقيبه بعض ما يتعلق بأحوال القيامة فأولها قوله تعالى: {الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين} والمعنى {الأخلاء} في الدنيا {يَوْمَئِذٍ} يعني في الآخرة {بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} يعني أن الخلة إذا كانت على المعصية والكفر صارت عداوة يوم القيامة {إِلاَّ المتقين} يعني الموحدين الذين يخالل بعضهم بعضاً على الإيمان والتقوى، فإن خلتهم لا تصير عداوة، وللحكماء في تفسير هذه الآية طريق حسن، قالوا إن المحبة أمر لا يحصل إلا عند اعتقاد حصول خير أو دفع ضرر، فمتى حصل هذا الاعتقاد حصلت المحبة لا محالة، ومتى حصل اعتقاد أنه يوجب ضرراً حصل البغض والنفرة، إذا عرفت هذا فنقول: تلك الخيرات التي كان اعتقاد حصولها يوجب حصول المحبة، إما أن تكون قابلة للتغير والتبدل، أو لا تكون كذلك، فإن كان الواقع هو القسم الأول، وجب أن تبدل تلك المحبة بالنفرة، لأن تلك المحبة إنما حصلت لاعتقاد حصول الخير والراحة، فإذا زال ذلك الاعتقاد، وحصل عقيبه اعتقاد أن الحاصل هو الضرر والألم، وجب أن تتبدل تلك المحبة بالبغضة، لأن تبدل العلة يوجب تبدل المعلول، أما إذا كانت الخيرات الموجبة للمحبة، خيرات باقية أبدية، غير قابلة للتبدل والتغير، كانت تلك المحبة أيضاً محبة باقية آمنة من التغير، إذا عرفت هذا الأصل فنقول الذين حصلت بينهم محبة ومودة في الدنيا، إن كانت تلك المحبة لأجل طلب الدنيا وطيباتها ولذاتها، فهذه المطالب لا تبقى في القيامة، بل يصير طلب الدنيا سبباً لحصول الآلام والآفات في يوم القيامة، فلا جرم تنقلب هذه المحبة الدنيوية بغضة ونفرة في القيامة، أما إن كان الموجب لحصول المحبة في الدنيا الاشتراك في محبة الله وفي خدمته وطاعته، فهذا السبب غير قابل للنسخ والتغير، فلا جرم كانت هذه المحبة باقية في القيامة، بل كأنها تصير أقوى وأصفى وأكمل وأفضل مما كانت في الدنيا، فهذا هو التفسير المطابق لقوله تعالى: {الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إلاَّ المتقين}، الحكم الثاني: من أحكم يوم القيامة، وقوله تعالى: {يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون} وقد ذكرنا مراراً أن عادة القرآن جارية بتخصيص لفظ العباد، بالمؤمنين المطيعين المتقين، فقوله: {يا عِبَادِ} كلام الله تعالى، فكأن الحق يخاطبهم بنفسه ويقول لهم {ياعباد لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليوم وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} وفيه أنواع كثيرة مما يوجب الفرح أولها: أن الحق سبحانه وتعالى خاطبهم بنفسه من غير واسطة.
وثانيها: أنه تعالى وصفهم بالعبودية، وهذا تشريف عظيم، بدليل أنه لما أراد أن يشرف محمداً صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، قال: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1].
وثالثها: قوله: {لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليوم} فأزال عنهم الخوف في يوم القيامة بالكلية، وهذا من أعظم النعم.
ورابعها: قوله: {وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} فنفى عنهم الحزن بسبب فوت الدنيا الماضية.
ثم قال تعالى: {الذين ءَامَنُواْ بئاياتنا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ} قيل {الذين آمَنُواْ} مبتدأ، وخبره مضمر، والتقدير يقال لهم: أدخلوا الجنة، ويحتمل أن يكون المعنى أعني الذين آمنوا، قال مقاتل: إذا وقع الخوف يوم القيامة، نادى منادٍ {ياعباد لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليوم} فإذا سمعوا النداء رفع الخلائق رؤوسهم، فيقال: {الذين ءَامَنُواْ بئاياتنا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ} فتنكس أهل الأديان الباطلة رؤوسهم الحكم الثالث: من وقائع القيامة، أنه تعالى إذا أمن المؤمنين من الخوف والحزن، وجب أن يمر حسابهم على أسهل الوجوه وعلى أحسنها، ثم يقال لهم {ادخلوا الجنة أَنتُمْ وأزواجكم تُحْبَرُونَ} والحبرة المبالغة في الإكرام فيما وصف بالجميل، يعني يكرمون إكراماً على سبيل المبالغة، وهذا مما سبق تفسيره في سورة الروم.
ثم قال: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بصحاف مِّن ذَهَبٍ وأكواب} قال الفراء: الكوب المستدير الرأس الذي لا أذن له، فقوله: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بصحاف مِّن ذَهَبٍ} إشارة إلى المطعوم، وقوله: {وَأَكْوابٍ} إشارة إلى المشروب، ثم إنه تعالى ترك التفصيل وذكر بياناً كلياً، فقال: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس وَتَلَذُّ الأعين وَأَنتُمْ فِيهَا خالدون}.
ثم قال: {وَتِلْكَ الجنة التي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} وقد ذكرنا في وراثة الجنة وجهين في قوله: {أولئك هُمُ الوارثون * الذين يَرِثُونَ الفردوس} [المؤمنون: 10، 11] ولما ذكر الطعام والشراب فيما تقدم، ذكر هاهنا حال الفاكهة، فقال: {لَكُمْ فِيهَا فاكهة مّنْهَا تَأْكُلُونَ}.
واعلم أنه تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم إلى العرب أولاً، ثم إلى العالمين ثانياً، والعرب كانوا في ضيق شديد بسبب المأكول والمشروب والفاكهة، فلهذا السبب تفضل الله تعالى عليهم بهذه المعاني مرة بعد أخرى، تكميلاً لرغبتهم وتقوية لدواعيهم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5